طيلة عام ونصف من الشلل الرئاسي والبرلماني والحكومي ومن الاعتصام في قلب بيروت والمظاهرات والحوادث الدامية المتنقلة والجرح النازف في الاقتصاد والاجتماع ومخاطر تجدد الحرب الأهلية وغيرها, لم تنجح المعارضة في الاستحواذ على مطلب واحد من المطالب التي حصلت عليها دفعة واحدة في الدوحة حيث حصدت الجائزة الكبرى في حين لم تحصل قوى الموالاة على أكثر من جائزة ترضية بسيطة. هل أن انتصار حزب الله العسكري على الأرض هو الذي قلب الموازين وانعكس مكاسب في السياسة باعتبار ان الحرب استمرار للسياسة بوسائل أخرى كما يقول كلاوزفيتز؟
في الحقيقة لا تنطبق المعادلة الكلاوزفيتزية الكلاسيكية على الوضع اللبناني حيث الحرب تنتهي دوما بخسارة الجميع.في الحروب اللبنانية التي دارت بين 1975 و1990 خسر الكل ولم يفز احد.هذا ما يدركه حزب الله الذي بعد « انتصاره »الأخير حرص على التأكيد انه لا يسعى لأي كسب سياسي ولا إلى تغيير معادلات سياسية قائمة بل فقط إلى إجبار الحكومة على إلغاء القرارين والعودة إلى ما كانت عليه الأمور قبلهما في انتظار الحل السياسي.
من اجل فهم أفضل لما جرى لامناص من الابتعاد عن الغابة اللبنانية لرؤيتها بشكل أوضح من خلال التمحيص في ما يجري حولها,في المنطقة بشكل عام.وسائل الإعلام, لاسيما الفضائيات, توفر مثل هذه الرؤية من دون كبير عناء.لقد كان الحدث اللبناني يحتل صدر الأخبار والحيز الأوسع فيها, تليه أخبار العراق قبل أن يقفز إلى الواجهة خبر المفاوضات السورية-« الإسرائيلية »التي قطعت شوطا متقدما بفضل الوساطة التركية.من يعرف الشرق الأوسط يدرك أن هذه الأحداث ليست منفصلة عن بعضها تماما.ليس من قبيل المصادفة أن توكل إلى تركيا العلمانية الأطلسية الأوروبية الإسلامية الشرقية مهمة التقريب بين السوريين و »الإسرائيليين » بحثا عن التسوية التي طال انتظارها والتي إن حصلت ستغير معادلات وموازين في الشرق الأوسط والعالم كله.وليس من قبيل الصدفة أيضا إن تجري مصالحة اللبنانيين ليس في دمشق كما اعتادوا او الرياض التي تمتلك خبرة في هذا المجال او القاهرة بل في الدوحة التي تقيم علاقات مع الجميع من سوريا الى « اسرائيل » الى حماس وحزب الله الى جانب احتضانها لأكبر قاعدة اميركية في الشرق الاوسط. وبالمناسبة فان السياسة الخارجية القطرية التي تحير كثيرا من المراقبين تستحق ان تدرس بعناية وموضوعية خارج الأحكام السطحية المتسرعة.
أكثر من ذلك كان الجيش العراقي مدعوما من الاميركين يحاصر الموصل قبل ان يدخلها في انتظار الاعلان عن قتل او اعتقال زعيم القاعدة في العراق ,ثم يدخل مدينة الصدر الذي قد يقوم قريبا بالإعلان عن حل جيش المهدي المدعوم من ايران, في وقت كان حزب الله يحكم سيطرته على بيروت.ايران لم تتأهب لنصرة حلفائها في العراق وتركت الاميركيين يتقدمون.هؤلاء بدورهم لم يفعلوا شيئا لنصرة حلفائهم اللبنانيين خارج الاعلانات المملة دعما لحكومة السنيورة.وقد سخر الجميع في لبنان,موالاة ومعارضة,من قرار إرسال المدمرة الاميركية يو-أس-كول الى الشواطىء المتوسطية.
هل كان ثمة من مقايضة اميركية-ايرانية :الموصل ومدينة الصدر في مقابل لبنان,مقتدى الصدر في مقابل السيد حسن نصرالله؟ الرئيس بوش يحتاج الى انجاز عراقي يتيح له الكلام عن نجاح استراتيجي يورثه للمرشح الجمهوري في الانتخابات الرئاسية والذي يعاني في حملته الانتخابية من العقدة العراقية.من جهته الرئيس الإيراني يحصل على ثمن كبير في لبنان مع يقينه ان العمق العراقي يبقى تحت سيطرته.رئيس الوزراء « الاسرائيلي »لا يشعر بضيم عميق جراء انغماس حزب الله في الوحول السياسية اللبنانية ثم انه-أي اولمرت-منشغل اليوم في مواجهة الفضائح المالية والتركيز على التسوية مع سوريا والتي إن حصلت ستنعكس على المعادلة اللبنانية وتحديدا على مستقبل حزب الله.
في المحصلة يعزز صلح الدوحة القناعة ان الجميع, من « دول الاعتدال »العربي الى « جبهة الممانعة » ومن الولايات المتحدة الساعية الى مخرج من الفخ العراقي الى إيران المنهمكة في ملفها النووي وفي تدعيم نفوذها الإقليمي, لا يجدون مصلحة في انفلات الوضع اللبناني وانزلاقه إلى حرب أهلية لن تبقى محصورة في المكان والزمان, لذا قرروا الاتفاق على تحييده ووضعه في غرفة انتظار تطورات الوضع الإقليمي.
انه انتظار يرجى ان يطول كي يمنح اللبنانيين متسعا من الوقت إن شاءوا العمل على تحصين بلدهم ومنع عودته ساحة للصراعات الإقليمية.
Ghassan El Ezzi